كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أما الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لوكنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذته خليلًا». فإنه أنزله أبا.
وهذا ظاهر في تقليده له.
وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد. وذلك تقليد له.
وجاءت الشريعة. بقبول قول القائف. والخارص والقاسم والمقوم للمتلفات. وغيرها والحاكمين بالمثل. في جزاء الصيد وذلك تقليد محض.
وأجمعت الأمة على قبو ل قول المترجم والرسول والمعرف والمعدل. وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد. وذلك تقليد محض لهؤلاء.
وأجمعوا على جواز شراء اللحمان. والثياب والأطعمة وغيرها. من غير سؤال عن أسباب حلها. وتحريمها اكتفاء بتقليد أربابها.
ولوكلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء فضلاء لضاعت مصالح العباد. وتعطلت الصنائع والمتاجر. وكان الناس كلهم علماء مجتهدين.
وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا. والقدر قد منع من وقوعه.
وقد أجمع الناس على تقليد الزوج. للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته وجواز وطئها تقليدًا لهن في كونها هي زوجته.
وأجمعوا على ان الأعمل يقلد في القبلة. وعلى تقليد الأئمة في الطهارة. وقراءة الفاتحة. وما يصح به الاقتداء. وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أوذمية أن حيضها قد انقطع فيباح للزوج وطؤها بالقليد.
ويباح للو لي تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها.
وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول أوقات الصلوات.
ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل.
وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحرث: أرضعتك وأرضعت امرأتك. فأمره صلى الله عليه وسلم بقرأقها. وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك.
وقد صرح الائمة بجواز التقليد. فقال حفص بن غيثا: سمعت سفيان يقول: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه.
وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه. ولا يجوز له تقليد من هو مثله.
وقد صرح الشافعي بالتقليد فقال: في الضبع بعير. قلته تقليدًا لعمر.
وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب. قلته تقليدًا لعثمان.
وقال في مسألة الجد مع الإخوة إنه يقاسمهم ثم قال: وإنما قلت بقول زيد. وعنه قبلنا أكثر الفرائض.
قال في موضع آخر من كتابه الجديد. قلته تقلدًا لعطاء.
وهذا أبو حنيفة رحمه الله في مسائل الابار ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة.
ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا. وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا.
ويقول في غير موضع: ما رأيت أحدًا أقتدي به يفعله. ولوجمعنا ذلك من كلامه لطال.
وقد قال الشافعي في الصحابة: رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا. ونحن نقول ونصدق أي رأي الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا.
وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا.
وذلك عام في كل علم وصناعة.
وقد فاوت الله سحبانه بين قوي الأذهان. كما فاوت بين الأبدان. فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله. والجواب عن معارضه في جميع لمسائل الدين دقيقها وجليلها.
ولوكان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء. بل جعل سبحانه وتعالى هذا عالمًا. وهذا متعلمًا وهذا متبعًا للعالم مؤتمًا به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع. وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكونمتبعًا للعالم مؤتمًا به مقلدًا له يسير بسيربه وينزل بنزوله.
وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق. فهل فرض على كل منها عين. أن يأخذ حكم نازلة من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها؟
وهل ذلك في إمكان أحد فضلًا عن كونه مشروعًا.
وهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا البلاد. وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه.
ولا يقولون له عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل ولا يعرف ذلك عن أحد منهم ألبتة.
وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود؟ فهو من لوازم الشرع والقدر.
والمنكرونله مضطرون إليه ولا بد. وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها.
ونقول لمن احتج على إبطاله: كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملتها ورواتها إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم. فليس بيدك إلا تقليد الراوي.
وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد. وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم.
فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم. وهذا سمع بأذنه ما رواه.
وهذا عقل بقلبه ما سمعه فأدى هذا مسموعه. وأدى هذا معقوله.
وفرض على هذا تأدية ما سمعه. وعلى هذا تأدية ما عقله. وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما.
ثم يقال للمانعين من التقليد أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ. بأن يكون مقلده مخطئًا في فتواه. ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق.
ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه.
وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها. فإنه إذا قلد عالمًا بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان صوابه وحصو ل غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه. وهذا متفق عليه بين العقلاء اه.
هذا هو غاية ما يحتج به المقلدون. وقد ذكره ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين. وبين بطلأنه منواحد وثمانين وجهًا.
وسنذكر هنا إن شاء الله جملًا مختصرة من كلامه الطويل تكفي المنصف.
وتزيد المسألة إن شاء الله إيضاحًا وإقناعًا.
قال في إعلام الموقعين بعد ذكره حجج المقلدين التي ذكرناها آنفًا ما نصه:
قال أصحاب الحجة:
عجبًا لكم معاشر المقلدين. الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله. ولا معدودين في زمرة أهله.
كيف أبطلتم مذهبكم. بنفس دليلكم. فما للمقلد وما للاستدلال؟
وأين منصب المقلد من منصب المستدل؟
وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابًا استعرتموها. من صاحب الحجة فتجملتم بها. بين الناس. وكنتم في ذلك متشبهين بما لم تعطوه. ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه. وذلك ثوب زور لبستموه. ومنصب لستم من أهله غصبتموه.
فأخبرونا. هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه. وبرهان دلكم عليه. فنزلتم به من الاستدلال أقرب منزل. وكنتم به عن التقليد بمعزل. أم سلكتم سبيله اتفاقًا. وتخمينًا من غير دليل.
وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين. سبيل. وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم. والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم.
ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة. قلتم لسنا من أهل هذه السبيل. وإن خاطبناكم بحكم التقليد. فلا معنى لما أقمتموه من الدليل.
والعجب أن كل طائفة من الطوائف. وكل أمة من الأمم. تدعي أنها على حق. حاشا فرقة التقليد. فإنهم لا يدعون ذلك. ولوادعوه لكانوا مبطلين. فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم عقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليها. وبرهان دلهم عليها. وإنما سبيلهم محض التقليد.
والمقلد لا يعرف الحق من الباطل. ولا الحالي من العاطل.
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم. وقالوا نحن على مذاهبهم. وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه.
فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه. فخالفوهم في ذلك كله.
وقالوا نحن من أتباعهم. تلك أمانيهم. وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم. واقتفى آثارهم في ًأولهم وفروعهم.
وأعجب من هذا أنهم مصرحون في كتبهم ببطلأن التقليد. وتحريمه. وأنه لا يحل القول به في دين الله.
ولواشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا تو ليته.
ومنهم من صحح التو لية وأبطل الشرط.
وكذلك المفتي يحرم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس.
والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده إذ طريق ذلك مسدودة عليه.
ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله. ويترك له كل ما خالفه من كتاب أوسنة أو قول صاحب. أو قول من هو أعلم من متبوعه أونظيره.
وهذا من أعجب العجب.
وأيضًا فإنا نعلم بالضرورة. أنه لم يكن في عصر الصحابة. رجل واحد اتخذ رجلًا منهم يقلده في جميع أقواله. فلم يسقط منها شيئًا وأسقط أقوال غيره. فلم يأخذ منها شيئًا.
ونعلم بالضرورة. أن هذا لم يكن في عصر التابعين. ولا تابعي التابعين.
فليكذبنا المقلدون برجل واحد. سلك سبيلهم الوخيمة. في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وسلم.
فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه. يبيحون به الفروج. والدماء والأموال. ويحرمونها ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم. ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء اه محل الغرض منه بلفظه.
وعلى كل حال فأنتم أيها المقلدون: تقولون إنه لا يجوز العمل بالوحي إلا لخصوص المجتهدين فلم سوغتم لأنفسكم الاستدلال على التقليد بآية: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. واية {فَلولا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122].
هل رجعتم عن قولكم بأن الاستدلال بالوحي لا يجوز لغير المتجتهد. أوارتكبتم ما تعقتدون أنه حرم من استدلالكم بالقرآن مع شدة بعدكم عن رتبة الاجتهاد؟
وفي هذا رد إجمالي ما استدللتم به على التقليد الذي أنتم عليه.
ثم يقال: أليست هذه الآيات التي استدللتم بها في زعمكم. من ظواهر الكتاب. التي سن لكم الصاوي وأمثاله. أن العمل بها من أصو ل الكفر.
فإنه لم يستثن شيئًا من ظواهر القرآن يكون العمل به ليس من أصو ل الكفر.
فلم تجرأتم على شيء هو من أصو ل الكفر وسوغتم لأنفسكم الاستدلال بالقرآن. مع أنه لا يجوز عندكم إلا للمجتهدين.
وسنذكر رد استدلال المقلدين تفصيلًا. بإيجاز إن شاء الله تعالى.
أما استدلالهم بآية {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاّ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فهو استدلال في غير محله.
فإن الآية لا تدل على هذا النوع من التقليد الأعمي الذي هم عليه من التزام جميع أقوال رجل واحد وترك جميع ما سواها.
ولا شكأن المراد بأهل الذكر أهل الوحي الذين يعلمون ما جاء من عند الله كعلماء الكتاب والسنة.
فقد أمروا أن يسألوا أهل الذكر ليفتوهم بمقتضى ذلك الذكر الذي هو الوحي.
ومن سأل عن الوحي وأعلم به. وبين له كان عمله به اتباعًا للوحي لا تقليدًا واتباع الوحي لا نزاع في صحته.
وإن كانت الآية تدل على نوع تقليد في الجملة. فهي لا تدل إلا على التقيلد الذي قدمنا أنه لا خلاف فيه بين المسلمين. وهو تقليد العامي الذي تنزل به النازلة عالمًا من العلماء. وعمله بما أفتاه به من غير التزام منه لجميع ما يقوله ذلك العالم. ولا تركه لجميع ما يقوله غيره.
وأما استدلالهم بالحديث الوارد في الرجل الذي أصابته شجة في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه: هل يعلمون له رخصة في التيمم؟
فقالوا: ما نرى لك رخصة وأنت قادر على الماء. فاغتسل فمات.
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فقال «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيي السؤال»
فهو استدلال أيضًا في غير محله. وهو حجة أيضًا على المقلدين لا لهم.
قال في إعلام الموقعين في بيان وجه ذلك ما نصه:
إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرشد المستفتين. كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه. وسنته فقال:
قتلوه قتلهم الله. فدعا عليهم حين أفتوا بغير علم.
وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد.
فإنه ليس علمًا باتفاق الناس.
فإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله. فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم.
فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم.
وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم.
فإنه لما أخبروه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البكر الزاني أقره على ذلك. ولم ينكره. فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم.